موسيقا اللغة العربية في السرد والشعر

موسيقا اللغة العربية في السرد والشعر

كان بودي أن أدلف للنصوص المختارة لكنه دوما قليل ، أقصد حظي في البحث .
فعيناي تأخذني خلف الكلمات وكأنها قدود الحسان ، ومستسلم أنا تماما لما تقوله لي الألفاظ ، وكأنني مأمور بهذا ، والمخالفة تعني معاقبتي بأشد أنواع العقاب .
فالعنوان يربط بين فنين لم ينفصلا أبدا ، اللغة والموسيقا ، وفي ظني أن فن الموسيقا كان موجودا قبل اللغة ذاتها ، ولكنه لم يعرف إلا من خلال اللغة ، ولم تكن هناك مقطوعات موسيقية منفردة إلا في عصور متأخرة جداً عن عصور بدايات الموسيقا .
حيث إن كلمة ( موسيقا ) ذاتها جاءت من اللغة اليونانية القديمة ( موس ) ، وعرفت الموسيقا فيما بعد بأنها العزف على الآلات الموسيقية ، حتى أصبحت علما يبحث في الأوزان والألحان وكيفية انسجامها مع الإيقاعات .
وقد ارتبطت الموسيقا بالكلام ارتباطا تاما من البداية ، حيث لابد من انسجام الكلام المغنى وهو غالبا كلام شعري مع الموسيقى المصاحبة لهذا الكلام الشعري الموزون .
والتفتت الموسيقا إلى المزج بين أصوات الآلات الموسيقية ( إيقاعية ووترية ونفخ ومفاتيح ) فيما بينهما صوتا وسكوتا من خلال الجرس والتجانس الهرموني والزخرفة الموسيقية والديناميكية والعذوبة وغيرها ، ثم المزج بينها وبين الصوت الغنائي ، وهكذا أبتعد عن موضوعي ثرثرة لا أدري كيف أفر منها ؟!
هذه تقدمة من وجهة نظري ليست مهمة على الإطلاق ، لكنها مفيدة للمبتدئين في النقد الأدبي على وجه التحديد ، لضرورة الإحاطة بالموضوع المستهدف ، خاصة إذا كان يرتبط بفن غير اللغة الأدبية ، وبينهما علاقات كما هو الحال بين الموسيقا واللغة المنطوقة .
وهذا ماكان يهدف له عبدالقاهر من نظرية اللفظ والمعنى وما أسماه ابن جني نظرية التناسب بين اللفظ والمعنى ، فكان ابن جني يرى أن العرب تستخدم الحركات اللفظية للدلالة على قوة أو ضعف المعنى ، وهذه قضية لم ينتبه لها حتى اللحظة سادتنا النحويون جيدا ، فهم يعلقون كثيرا على صحة النطق باللفظ ولا يعلقون على إحساس القائل والناطق بهذا اللفظ ، وإحساسه غالبا عندي مايكون الأصوب .
فجعل العرب الفتحة هي الحركة الأضعف ، والكسرة أقوى من الفتحة ، والضمة أقوى منهما ، وقدم ابن جني مثالا على ذلك بقوله ( عزَّ يَعَزُّ ) و ( عَزَّ يَعِزُّ ) ، فالثانية أقوى من الأولى لاشتمالها على الكسر ، فالأولى تعني أنه قوي ، ولكن الثانية تعني أنه ممتنع ، وكل قوي ليس ممتنعا ، فربما هناك قوي صلب ولكنه لايمتنع عن الكسر ، وبالتالي فإن الممتنع أقوى فجاءت اللفظة بالكسر ، وكذا الحِبُّ والحُبُّ ، فالحِب هو المحبوب وهو على القلب أرق وألطف ، بينما الحُبُّ ذاته هو على القلب عنيف وقوي .
وهكذا في كلام العرب كله ، فتغير حركة الصوت تعني عند العرب تغير المعنى ، فمثلا حينما يكون هناك شخص طويل يقولون ( هذا طويل ) أما إذا زاد طوله عن المعتاد فيقولون ( طوالا ) ، وحينما يكون هناك فعل كبير يقولون ( هذا كبير ) ، ولما يزداد كبره عن المعتاد يقولون ( كٌبَّارا ) ، لأن المد بالألف يأخذ مساحة صوتية أكبر من المد بالياء ، ولذا فهو يعطي معنى أكبر من المد بالياء .
وهذا ما يجعلنا نشعر بالكلمات حتى إذا لم نعرف مرادفا لها ، فتقول العرب عن الشخص الطويل 
( العَشَنَّق ) وعن القصير ( البُحْتُر ) .
ألا ترون أن الحروف التي تعبر عن الطول طويلة ومتفردة ولا يمكن التداخل فيما بينها ، بينما التي تعبر عن القصير سهلة ومتقاربة .
ويقولون عن الإنسان المتكبر الجافي ( الجعظري أو الجواظ أو العتل ) ، ففي صوت الحروف مع بعضها ما يقدم لنا صورة صوتية لوصف المتحدث عنه .
يبدو أنني لو اطلقت العنان لنفسي لبعدت بالقاريء العزيز كثيرا عن النصوص المستهدفة التي لن أستطيع أن أتناولها إلا في اللقاءات القادمة ، إذا شاء الله جل في علاه وقدر لي ذلك . 
لازال البحث طويلا طويلا ، فهناك نصوص مختارة من رواية الكاتبة النادرة هبة بنداري ، ونصوص من شعر الشاعر العبقري / عبدالعزيز جويدة ، ومن شعر شاعر مصر الكبير / أحمد مرسي ، وسوف أقدم نصوصهم الآن واستكمل الكلمة في اللقاء القادم بامر الله تعالى .
تقول الروائية هبة بنداري في روايتها ( بلقيس ) :
( عندما صعد عمر إلى غرفته، استلقى على فراشه وهو يحدق بسقف الغرفة، لا يدري ما الذي أصابه بالفعل ؟ لماذا هو يتعلق بتلك الفتاة بهذه الصورة ؟ لم يرها إلا أمس؟ ولم يعلم عنها شيئاً ؟ لكنه لا يستطيع أن يخرجها من أفكاره !!! لقد احتلت عقله تماما، فهو منذ أمس لايفكر إلا بها ! واحتلت روحه !! فهو يشعر بها في أرجاء المنزل، واحتلت قلبه !! فهو يشتاق إليها بشدة ! ويشم رائحتها بلهفة ! لقد احتلت بلقيس هذه كل
حواسه، لقد أصبح بالفعل أسيرا لها، كأنها قد ألقت عليه تعويذة سحرية قيدته بها داخل قضبان عينيها... مرت ساعات، وعمر في فراشه لا ينام ولا يستيقظ، تقلب عمر كثيرا في فراشه ، كان يرغب بشدة أن ينام لبعض
الوقت عله يريح عقله وقلبه وروحه، ولكنه لم يستطع، كان يتقلب على فراشه كأنه يتقلب على قطع من الجمر نهض و توجه إلى الشرفة ففتحها ووقف داخلها يستنشق الهواء البارد عله يطفئ النيران التي يشعر بها تجتاحه ، كان عمر ينظر إلى السماء وقد تلونت بلون الشفق، بعد
أن أسدل الليل بأستاره على المكان ، وعم الهدوء الشديد المنطقة، نزل عمر وخرج من فيلته ، كان يرغب بأن يتمشى في حديقة المنزل كان هناك ممر طويل يصل الحديقة بالمنزل ، كان عمر يمشي ببطء حتى يصل إلى
الحديقة ، كان الجو قد أصبح باردً ا لكن لم يشعر عمر بهذا، ورغم برودة الجو الا أن السماء كانت صافية والقمر ينيرها ، كان المكان حول عمر هادئًا بدرجة كبيرة ، حتى أن أقل حركة به تسمع ، لكنه كان شاردا، فلم يسمع الطرق على الباب الخارجي ، ولم يسمع صرير البوابة الحديدية وهي تفتح ، و لا الشخص الذي يقف بالباب يسأل عن عمر، و لا محسن وهو يرد
عليه بأنه داخل الحديقة ، ويشير إليه أن يتفضل ، و لا البوابة وهي تقفل مرة أخرى، كل هذا لم يشعر به عمر، لكنه سمع فقط حفيف ورق الأشجار الجافة المتساقطة عندما يمشى عليها أحد، لم يهتم عمر أن يري من هو القادم خلفه ، كان يقف وينظر إلى لا شيء، فقط يمشي بعينيه على الأشجار المحيطة به وظهره إلى الممر، عندما اشتم فجأة رائحة لا يمكن لأنفه أن تخطئها أبدا ، رائحة بات يعشقها ويعشق صاحبتها ، استدار بعنف وبسرعة ينظر من الذي يقف خلفه ؟....
وقف مشدوها لم يصدق ما تراه عيناه ، لقد كان يقف وجًها لوجه أمام بلقيس .... بادرته بصوتها الشديد النعومة قائلة له بابتسامة عذبة ورقيقه : إزيك يا عمر
نطقت اسمه بطريقة شعر عمر معها بأن روحه قد سحبت منه... لم يستطع أن ينطق.. لثواني لم يشعر عمر بنفسه ،أنائم هو ؟ أم يقظ ما يراه خيالاً ؟ أم هو حقيقة ؟ أيمكن أن تكون بلقيس هنا ؟ أيمكن أن تكون حية ؟ هي روحا وجسدًا ؟ أم أنها ميتة بالفعل وهذا
هو طيفها ؟ ! ) . ( الرواية صـ 55 ، 56 ) .
ويقول الشاعر العبقري / عبدالعزيز جويدة في قصيدته ( الغيبة المتعمدة ) : _
( لو رَنَّ هاتِفُنا
أشمُّ الصوتَ مِن بُعدٍ
أتحسَّسُ الأسلاكَ
أشعرُ أنَّهُ حُلمٌ يُداعبُ
فالمشاعرُ مُجهَدةْ
ماذا يُضيرُكِ لو تَحدَّثنا
لخَمسِ دقائقٍ
لدقيقتينِ
لِواحدةْ ؟!
يا جاحِدةْ
كوني على نَفسي ونفسِكِ
شاهِدةْ
أنا في انتظارِكِ
رغمَ أنِّي مُدرِكٌ
أنَّ التناسي ليسَ سهوًا
إنَّما أنتِ التي نَسِيتْ إذنْ 
متَعمِّدةْ ) .
***********
ويقول الشاعر المصري الكبير / أحمد مرسي في قصيدته ( لاتعتذر ) :
لا تعـتذر
********
لا تعتذرْ
فلقد سرقت من الجفونْ
ريحَ السعادةِ والكرى
لاتعتذرْ
فالحب عندي ياحبيبي
لايباع ويشترى
لاتعتذر ْ لي
واعتبر
حبي إليك دفنته
تحت الثرى
*****************
قد كان حبي زهرةً
مثلَ النسيمِ
إذا سرى
لما رأيتُكَ ها هنا
واريتُ نفسي فيكَ
حتى لا أُرى
********
وسوف أناقش هذه المقاطع المختارة موسيقيا في اللقاءات القادمة بأمر الله جل في علاه

مقالات مشابهه

من قسم آخر


التقيمات

راديو القمة

radio

الأكثر قراءة

فيس بوك

a
;