في زحمة الحياة، كثيرًا ما نظن أن قراراتنا وخططنا وحدها تصنع مصائرنا، وأننا نرسم الطريق بدقة متناهية. لكن الحقيقة أن هناك خيطًا خفيًا يسير بين تفاصيل أيامنا، يفتح أبوابًا لم نتوقعها، ويغلق أخرى ظننا أنها خلاصنا. خيط لا تراه أعيننا، لكنه ينسج قصتنا ضمن عناية إلهية أوسع من إدراكنا.
كم مرة اعتقدنا أننا خسرنا كل شيء، فإذا بنا نربح أنفسنا؟ كم مرة انتظرنا حلمًا طويلًا، فلما جاء متأخرًا بدا أجمل مما تمنّينا؟ وكم مرة أبعدنا الله عن طريق أحببناه، ثم اكتشفنا لاحقًا أنه كان دربًا خطرًا يوشك أن يهوي بنا؟ الإنسان لا يرى إلا اللحظة التي يعيشها، بينما الله يدبرها ضمن لوحة شاملة متكاملة.
القرآن الكريم اختصر هذه المعادلة الدقيقة في قوله تعالى:
﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].
هذه الآية ليست مجرد توجيه إيماني، بل هي مفتاح لطمأنينة القلب في مواجهة تقلّبات الحياة.
إنها تذكّرنا أن ما نراه شرًا قد يكون في جوهره خيرًا، وأن ما نعدّه خسارة قد يكون إنقاذًا.
التدبير الإلهي ليس دائمًا موافقًا لرغباتنا القريبة، لكنه دائمًا ينسجم مع مصلحتنا الأعمق. قد نحزن لأن حلمًا تعثر، بينما في الحقيقة تلك العثرة كانت رحمة؛ وقد نتألم من فقد عزيز، بينما هو حماية من فتنة لم نكن لنحتملها. ما نراه مرارة قد يكون الدواء الذي يعيد إلى أرواحنا توازنها.
رسول الله ﷺ لخّص فلسفة الإيمان بالتدبير في حديثه الشريف:
"عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له." [رواه مسلم].
بهذا المعنى، كل تقلبات الحياة تصب في مصلحة المؤمن، لأنه يرى يد الله خلف كل مشهد، فلا ييأس عند البلاء ولا يطغى عند النعم.
الإيمان بالتدبير لا يعني أن نكفّ عن العمل، بل أن نعمل ونجتهد ثم نترك للغيب مساحته. أن ندرك أن الكون أكبر من حساباتنا الصغيرة، وأن ما يفوتنا قد يكون حماية، وما يتأخر قد يكون إعدادًا لمرحلة أنضج. هذا ليس استسلام الضعيف، بل تسليم العارف الحكيم.
بين أبواب تُغلق وأخرى تُفتح، بين ما نأخذه وما نفقده، تظل الحقيقة ثابتة نحن في رعاية مدبر رحيم. من أيقن بهذا عاش مطمئنًا، شاكرًا، متوازنًا، يرى الحياة بمنظار أوسع. فلا يجزع عند المصائب، ولا يطغى عند النعم، لأنه يعلم أن كل خيط في نسيج أيامه وُضع بحكمة ورحمة وعدل معًا.